هكذا وقف حاتم علي في الطابور للحصول على وثيقة إقامة في القاهرة

كتب ثائر الناشف

عن رحيل حاتم علي

السوريون الواقفون بين طوابير الحياة وطوابير المـ.ـوت ..
كلمات من دفاتر الماضي .. ذكريات وصور من العشرية السورية المُفـ.ـجعة.

شاءت الأقدار -ربما لأكتب هذه السطور المؤجلـ.ـة من حينها- أن تجمعنا صـ.ـدفة ثلاث مرات في يوم صيفي واحد، وفي مكانين قاهريين مُختلفين.

كان اللقاء الأول في مجمع التحرير الكائن في مدينة القاهرة، وذلك في مطلع شهر سبتمبر عام 2014.
كان الجو قائظًا، والطابق الثاني مُزدحمًا بالمراجعين العرب

وخاصة السوريين منهم؛ بغية الحصول على بيان الإقامة المؤقتة في مصر استجابة لرغبة السلطات المصرية؛ والتي كانت قد شددت –حينذاك- إجراءاتها القانونية في إلزام جميع المُقيمين العرب على أراضيها في تبرير إقامتهم بطريقة شرعية

فتفاجأتُ يومها عندما همست زوجتي السابقة في أذني متسائلة (يا سائر مش هو الفنان السوري؟) فأجبتها من فوري؛ بلى إنه حاتم علي، فكانت دهشتي عظيمة

وأنا أرى ذلك الفنان الكبير الراحل وهو يقف بكل تواضع ورضى بين الطوابير، حاله في ذلك كحال المئات من السوريين النازحين والمهجّرين عن وطنهم الجريح في تغريبتهم القسرية

فيما كان العرق يسيل من جبينه، والأنفاس تضطرم في الصدور لشدة الحر، وانعدام التهوية الجيدة، ولم يلتفت أحد من السوريين إلى وجوده بيننا، فكان أن تركنا المكان، لالتقاط أنفاسنا لحين حلول موعد تسليم جوازات السفر بعد الساعة الثانية ظهرًا.

فكان اللقاء الثاني في مقهى جروبي الإيطالي العريق؛ والذي لا يبعد كثيرًا عن مبنى المجمع الحكومي في وسط القاهرة، فكانت الصدفة أن جلس في الطرف الآخر المقابل لي تمامًا

وعيناه تقولان لي ألم نلتق قبل قليل في المجمع الحكومي، وأننا هربنا بسبب الحر، وضيق التنفس والطوابير البشرية الطويلة، فكان الجواب في اللقاء الثالث عند عودتنا إلى المجمع لحظة التقاط الجوازات السورية المطبوعة بتصريح الإقامة.

كان الطابور أطول من المرة الأولى، فأصبح الجو خانقًا بشدة، ووقفنا بعضنا وراء بعض في صف طويل، فيما بدأ الموظف المصري يقذف الجوازات من مسافة بعيدة عبر النافذة الزجاجية

لاستحالة وصول صاحب الطلب إليه أمام الحشود البشرية المتدافـ.ـعة، فما زلت أذكر كيف أن الموظف قـ.ـذف بجـ.ـوازي وجواز حاتم، ورحنا نلتقـ.ـطهما كحـ.ـراس المرمى، أو كما يلتقط الحمام حبات القمح.

أخذت أحدق إلى حاتم، وكأنني أعرفه منذ زمن طويل، بينما أخذ يتطلع إليَّ، وكأننا كنا رفاقا قدامى والتقينا بعد ردح من الدهر، في الحقيقة كنا نعرف بعضنا جيدًا بعيون ما حدث في سورية خلال عشرة أعوام.

كان حاتم يرى وجوه السوريين بعينه السينمائية الساحرة؛ والتي لم تغفل أبدًا عن رؤية أدق تفاصيل الوجع السوري المُرتحل من بلد لآخر، فكانت دهشته كبيرة عندما رويت له سريعًا قصة جواز سفري

لأنه كان مستغربًا بشدة أن شخصًا عنيدًا مثلي لا يزال يحمل جوازًا سوريًا في جيبه، فأخبرته أنني لا أملك جوازًا –وطنًا- حقيقيًا منذ سنوات طويلة

وأن ما بحوزتي الآن ربما لا يعدو كونه جوازًا سوريًا مُستعارًا، رغم أنّه يحمل بياناتي الشخصية الصحيحة، فكان أن أغمض عينيه لبرهة تعبيرًا عن أسفه.

لم استغرب أبدًا كيف تفاعل السوريون مع رحيل حاتم علي الإنسان، وأنا ما زلت أتذكر لحظة وقوفه بين الطوابير، فقد كان بوسعه أن يكلّف محاميًا مصريًا ليستلم عنه جوازه

كما يفعل السوريون الميسورون من فئة رجال الأعمال، لكنه أبى إلا أن يكون فنانًا إنسانًا يسند كتفه إلى كتف إخوته السوريين في تغربيتهم المريرة.

أخيرًا أقول لروح حاتم المُرتحلة والهائمة في السماوات:
حياتنا باتت يا عزيزي كصفحات جواز السفر، فإمّا أن تكون صادقة ناصعة أو مُزيفة مُكدّرة!

انتهت الإقامة الدنيوية المؤقتة يا حاتم، وبدأت الإقامة الأخروية الدائمة.
لروحـ.ـك الرحمة والسلام