لأول مرة..ممدوح حمادة أحد أشهر المبدعين ومؤلفي المسلسلات الدرامية السورية يدلو بدلوه حول الوضع في سوريا

دكتور ممدوح حمادة، الذي يستضيفه (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) في هذا الحوار الشامل حول سيرته ومسيرته الإبداعية في عوالم الكتابة والفنون، هو صحافي وروائي وسيناريست ورسام كاريكاتير، يعيش الآن في بيلاروسيا، وهو من مواليد عام 1959، من هضبة الجولان السورية المحتلة، نزح في طفولته حيث عاشت أسرته في السويداء في جنوب سورية، إلى حين سفره إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة في كلية الصحافة في جامعة بيلاروسيا الحكومية في العاصمة مينسك، حيث تخرج عام 1994 بدرجة دكتوراه، ثم رجع إلى وطنه الأم سورية، لكنه لم يُوفق في العثور على عمل في دمشق طوال أكثر من عام ونصف، فقرر العودة إلى بيلاروسيا التي عمل فيها مدرسًا في إحدى جامعاتها لأكثر من عشر سنوات، ثمّ درس الإخراج السينمائي في أكاديمية الفنون الحكومية البيلاروسية، وتخرج فيها عام 2009، ليُحقق حتى الآن أربع أفلام قصيرة. وكان أن مارس ضيفنا أثناء دراسته وإقامته في بيلاروسيا فنّ الكاريكاتير بشكل متقطع، ونشر رسومه ومقالاته في الصحف البيلاروسية، خاصة في مجلة “فوجيك” الساخرة التي نشرت رسومه بين عامي (1990 – 1994)، كما شارك في عدد من مهرجانات الكاريكاتير في مختلف أنحاء العالم.

بدأ صاحب “الدفاتر” الصادرة (عن دار ممدوح عدوان)، بكتابة السيناريو في عام 1995 ولا يزال يعمل في هذا الحقل، إضافة إلى أنه يمارس كتابة القصة والرواية والمسرحية، وينشر بين الحين والآخر رسوماته ومقالاته وقصصه، في منابر صحفية سورية وعربية ورقية وإلكترونية.

ومن أشهر أعماله الدرامية: «بطل من هذا الزمان»، «صراع الزمن»، «قانون ولكن»، «عالمكشوف»، «مرزوق على جميع الجبهات»، «مشاريع صغيرة»، «ضيعة ضايعة» (جزئين)، «خربة»، «ضبو الشناتي»، و«الواق الواق»، إضافة إلى مساهمته البارزة في سلسلة «بقعة ضوء» الكوميدية الساخرة. وفي كل هذه الأعمال استخدم صاحب «جلنار»، كل طاقاته في تقديم الرسائل المبطنة التي تحمل ما تحمل من مرارة الحياة والسخرية والنقد اللاذع على صعيدي الشكل والمضمون.

عُرف ممدوح حمادة ككاتب ملتزم أخلاقيًا بالقضايا التي يحلم بها أبناء شعبنا السوري في المطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ووقوفه ضد الاستبداد وتعسف السلطة الجائرة، ومحاربته للفساد والفاسدين. داعيًا إلى صياغة خطاب وطني جديد يستطيع جميع السوريين المشاركة فيه.

هنا نص الحوار:

بداية، كيف هي حياتك في منفاك البيلاروسي في “زمن كورونا”؟

حالة الحصار التي أعيشها، كما يعيشها الجميع في “زمن كورونا” الآن، هي حالة طبيعية بالنسبة لي، فأنا أعيشها منذ زمن بعيد كون عملي في الكتابة -وخاصة كتابة السيناريو- يفرض علي العمل فترات طويلة بين أربعة جدران، حتى إني صرت أشعر فيها بأن هذه الجدران الأربعة هي أقرب أصدقائي، الفرق بين ما “قبل كورونا” (ق. ك) وما “بعد كورونا” (ب. ك)، أنني كنت (ق. ك) أستمتع ببعض وقتي إما بسهرة مع الأصدقاء أو برحلة ما، أما (ب. ك) فقد ربحت هذا الوقت الذي كنت أضيعه في هذه الأشياء، وللحقيقة فإنه وقت مثمر، حيث أحاول استغلال هذا الوقت الذي ربحته بمحاولة ترميم ما تراكم، فأطلقت مشروع قراءة قصصي على قناة (يوتيوب) الخاصة بي [https://www.youtube.com/user/hammam1z/featured]، وبدأت بالحديث عن بعض التقنيات الدرامية، بناء على طلب كثير من الأصدقاء، كذلك أتابع العمل على مجموعتي القصصية السادسة التي تنتمي إلى سلسلة (دفاتر ممدوح حمادة) بعنوان «دفتر الثكنة» عن “دار ممدوح عدوان”، كما أعدت نشر قصتي «المحطة الأخيرة» في طبعة ثانية، ورأت النور مسرحيتي «الجلاد المتقاعد» عن “دار موزاييك”.

إذًا؛ يمكن القول إنه من هذه الناحية رب ضارة نافعة، ولكن من ناحية أخرى، هناك قلق كبير من استمرار هذه الحالة طويلًا بحيث تتسبب بكوارث كبيرة على البشرية، فالحياة تحت ضغط الحصار إلى ما لا نهاية أمرٌ مستحيل خاصة على بؤساء هذا الكوكب الذين سيخرجون من أوكارهم في نهاية المطاف بحثًا عن رغيفهم وقد (تأبطوا شرًا)، وإذا تأبط البؤساء شرًا؛ فعلى الدنيا السلام.

* أنتمي إلى سورية كلها…
كيف تُنبئنا عن نفسك إنسانًا وكاتبًا ومبدعًا؟ سيرتك ومسيرتك في عالم الكتابة الإبداعية، وماذا عن الآباء الروحيين لك في مجال الأدب؟

أنحدر من الجولان السوري المحتل، عشت في مدن سورية عدّة، أهمها السويداء ودمشق، ولدت في مدينة إزرع في سهل حوران، أديت خدمتي الإلزامية في حلب، وزرت أصدقائي في معظم مدن سورية، وتلك التي لم أزرها زارني منها أصدقاء، أنا ابن سورية وأنتمي إليها كلها، أما فيما يتعلق بالكتابة فأعتقد أنها هوس أصبت به في مرحلة مبكرة من عمري، ربما تعود إلى مرحلة الدراسة الابتدائية، حيث بدأت أكتب شعرًا ركيكًا له علاقة بالقضايا الوطنية، فكانت أول قصيدة لي عن القنيطرة وكانت قد احتُلّت للتو، وقصيدة بعدها عن القدس، وفي الصف الخامس ألفت أنا وصديق لي اسمه (فايز) ديوان شعر، قدمناه لمدير المدرسة الأستاذ (فؤاد) وقتها طمعًا بالحصول على بعض الإطراء، ولكن المدير كاد ينقلب على ظهره من الضحك، فقد تبين أن جميع قصائد صديقي (فايز) مسروقة، ومن يومها لم أعد أؤمن بالشراكات في الإبداع، توقف “فايز” عن سرقة قصائد الآخرين ولم يعد له علاقة بالشعر، أما أنا فتابعت الكتابة وكانت كتاباتي منقسمة بين القصة والشعر، نشرت أول قصة لي في عام 1982 بعنوان «الساق الخشبية»، ثم نشرت عدة قصص أخرى باسم مستعار هو (حسين أبو أحمد)، ثم سافرت إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة الصحافة وهناك تابعت الكتابة، ولكن السبل إلى النشر في الصحافة أو إصدار كتب لم تكن متوفرة، بسبب عدم وجود وسيلة اتصال في ذلك الوقت، راسلت كثيرًا من الصحف وأرسلت لهم قصصي، ولكن أحدًا لم يرد سوى مجلة اسمها “الوحدة” اعتذروا في ردهم عن النشر لأن القصة لا تتوافق مع شروط النشر في مجلتهم، وكانت القصة وقتها بعنوان «الثالثة ليلًا» ونشرتها في «دفتر الهذيان» الذي يحمل الرقم خمسة بين دفاتري.

مجلة “الناقد” كانت الوحيدة التي نشرت لي ما أرسلته لها، وكان عدة رسوم كاريكاتيرية، ونشرت عن طريق الغلط باسم صديقي الراحل الفنان عبد الله بصمجي، بينما نُشرت رسوم لعبد الله باسمي. لهذه الأسباب لم أتمكن من النشر ولكنني كنت أكتب وأرمي في الأدراج سواء ترجمات أو قصص أو أبحاث، وعندما عدتُ إلى سورية بعد عشر سنوات، صدمت بعدم تمكني من إحداث أي اختراق لا في مجال النشر ولا في مجال العمل، واضطررت تحت الضغط المادي أولًا والنفسي ثانيًا إلى الرحيل، بعدها وأثناء إحدى زياراتي إلى سورية تعرفت إلى إحدى دور النشر “عشتروت”، وبدأت أنشر كتبي، فنشرت عندهم كتابي «فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة» و«الكاريكاتير في الصحافة الدورية»، ومسرحية للأطفال بعنوان «صانع الفراء» كان ذلك عام 1999. ثم نشرت قصتي «المحطة الأخيرة» و«جلنار» عن “دار علاء الدين”، وانقطعت عن النشر مرة أخرى حتى التقيت بأصحاب “دار ممدوح عدوان”؛ فبدأت أنشر عندهم سلسلة الدفاتر، ونشرت أيضًا قصة «ضمانات للمستقبل» والآن أتابع النشر معهم، وتعرفت إلى نافذة جديدة للنشر، عبر “دار موزاييك” التي نشرت لي الطبعة الثانية من قصتي «المحطة الأخيرة» ومسرحية «الجلاد المتقاعد».

في عام 1995، بدأت الكتابة للدراما وبما أنها توفر دخلًا معقولًا -بخلاف الكتاب- ما زلت أعمل بها، وأمارس الرسم الكاريكاتيري وأنشر منذ عام 1989، حيث بدأت بنشر رسومي في مجلة بيلاروسية ساخرة اسمها “القنفذ”، وفي صحف بيلاروسية أخرى.

توقفت عن نشر الكاريكاتير عند عودتي إلى الوطن، بسبب انعدام المنبر، ولأن الكاريكاتير فن صحفي فإنه بعدم وجود المنبر للنشر في الصحافة لم يعد هناك حافز للرسم، ولكنني منذ عدة سنوات عدتُ لرسم الكاريكاتير، عندما دُعيتُ لإقامة معرض في نيويورك حيث كنت أقيم وقتها هناك، والآن بدأت بنشر رسومي ضمن زاوية أسبوعية لي في جريدة “الناس نيوز” الصادرة في أستراليا، انتسبت لكلية الفنون البيلاروسية الحكومية، ودرست الإخراج السينمائي وتخرجت فيها عام 2009، وأخرجت مجموعة من الأفلام القصيرة، هذه باختصار مسيرتي الفنية.

* ضد القمع وتعطيل الدستور…
هل تصنف نفسك كاتبًا ومثقفًا ضد نظام الحكم في بلدك؟ وما هو موقفك من الثورة التي انطلقت في منتصف آذار/ مارس 2011، التي سرعان ما غدت نزاعًا مسلحًا بين جيش النظام وفصائل المعارضة المسلحة وأصحاب الرايات السوداء، ثم حربًا تسوسها قوى إقليمية ودولية؟

أنا بالتأكيد -كإنسان عاقل- لا يمكن أن أكون ضد النظام، لأن النظام أمرٌ لا تستوي الأمور بدونه لإدارة المجتمع، أنا ضد الفساد المستشري الذي ينخر النظام حتى نخاعه الشوكي، ضد القمع والاستبداد الذي يعرقل ويشل النظام، ويقتل أي مبادرة قد تمس مصالح الفساد والاستبداد، ضد تعطيل الدستور أو جعله مطية وجعل النظام خرقة لكل من كان الدستور سينصفه أو سيضعه عند حده على السواء، ضد جعل القانون وأجهزته دمية في يد الفساد، ضد كبت الحريات بمختلف أنواعها، أنا ضد كل هذه الأشياء التي يمكن أن نسميها (اللانظام)، من يقوم بهذه الأشياء ويقف خلفها هو الذي يقف ضد النظام، ويُحول مؤسسة الحكم إلى طغمة تفتك بمقدرات البلد بدلًا من أن تكون مديرًا لها، أنا ضد هذه الأشياء التي ذكرتها وكل من هو ضدها فأنا معه في خندق واحد، وكل مسؤول عنها هو في الخندق المضاد.

بالنسبة إلى الثورة، فهي ردة فعل طبيعية على الأشياء التي ذكرتها، وأنا بكل تأكيد أقف مع مطالب الناس ومع حقهم في الحصول على حياة كريمة، إذا أردنا أن نختصر الكلام. لذلك لا يمكن أن أكون ضد ثورة تسعى لذلك، وبطبيعة الحال أعتبر أي دخول على هذا الأمر سواء من قبل أصحاب الرايات السوداء وغير السوداء من القوى المتطرفة، أو التي تمثل طيفًا واحدًا وتستثني باقي الأطياف وتكفرها أو تخونها، إن من منطلق طائفي وديني أو من منطلق سياسي، أو أي دخول للقوى الدولية والإقليمية مهما كان شكله وموقعه، أعتبر ذلك اغتيالًا لأحلام ومستقبل الشعب السوري ومصادرة لمستقبله، وبالتالي فأنا ضد من يفعل ذلك، ومع من يسعى إلى المستقبل الأفضل الذي يشمل جميع السوريين بكل فئاتهم، وهناك منهم الكثير ولكن في ظل سيادة القوة والمال صوتهم ضعيف إلى حد ما.

تكتب المقالة والقصة القصيرة و”النوفيلا” (القصة الطويلة) والرواية والمسرحية ونصوص وسيناريوهات درامية تلفزيونية، أي جنس أدبي تراه ألين في الكتابة لتعبر عما يعتمل في ذاتك من أفكار وانفعالات ومشاعر؟

باستثناء المقالة والكتابة الدرامية اللتين تطغى فيهما الصنعة على الناحية الإبداعية، فإن الكاتب يستطيع التعبير عن أفكاره وانفعالاته في جميع الأجناس الأخرى، مع مراعاة الخصوصية لكل جنس ففي بعض الأماكن يتطلب الأمر التكثيف وفي بعضها يسمح بالاستطراد مثلًا، وبالنسبة إلي أشعر أن القصة القصيرة هي الأقدر على ذلك بدرجة بسيطة، المقالة تحاصرك بخطة تجعل ابتعادك عن محورها شذوذًا عن الموضوع على سبيل المثال، وفي السيناريو أنت ملتزم بحبكة تفرض عليك زمن المشهد وتفعيل الشخصيات بشكلٍ متوازن، أما في القصة والرواية فأنت حر.

أنت أيضًا رسام كاريكاتير ومخرج سينمائي، فهل أثرت ثقافتك البصرية في كتاباتك القصصية والروائية والدرامية؟

أنا أمارس الكتابة قبل اقترابي من الكاريكاتير والسينما، أستطيع أن أقول إن اتجاهي نحو الكاريكاتير كان ثمرة لتجربتي القصصية وأنا أتوجه الى الوصف البصري، منذ أن اتخذت الكتابة وسيلة للتعبير، ومن ثم توجهت للرسم كهاو، أما تجربتي السينمائية، على الرغم من أنني اكتسبتها عبر دراسة أكاديمية، فإنها لا تزال متواضعة ومقتصرة على عدد من الأفلام القصيرة، ولكن لا بد أن هناك تأثيرًا متبادلًا بين جميع الأنواع الفنية التي أمارسها بهذا الشكل أو ذاك، فهي كلها دقيق من مطحنة واحدة.

من رسومات حمادة الكاريكاتيرية

من رسومات حمادة الكاريكاتيرية

من رسومات حمادة الكاريكاتيرية
هل أثرت الثورة/ الحرب والمنفى في تجربتك الكتابية؟ ومن قبل ماذا تعني لك لحظة الكتابة؟ ولمن تكتب؟

نحن أبناء الواقع، ولا بد أن يؤثر فينا كل ما يحدث حولنا أو ما يجري في حياتنا، لدي مجموعة قصصية كاملة تتحدث عن الحرب، الحرب في حياتي وليس الآن فقط، فأنا ضحية حرب بشكلٍ مباشر عندما اضطررت إلى مغادرة منزلي وملاعب طفولتي عنوةً في النكبة الثانية عام 1967، هذا الرحيل ترك جروحًا لم تندمل ولن تندمل، وكتبت قبل أن يحدث أي شيء حول هذه الموضوعات التي جعلت الناس، أو لنقل جعلت كثيرين منهم، يهبون ضدها، وأقصد موضوعات الاستبداد وما يتعلق بها.

هل تُفكر في القارئ وأنت تكتب؟

بطبيعة الحال، أفكر بالقارئ عندما أكتب، لأنني أحمّل متن كتابتي رسالة له تحديدًا، ولكنني لا أسعى لتقديم الرشاوي له بكتابة ما يريد أن يسمع، وإنما أريده أن يسمع ما أقول، وأن تصل إليه فكرتي.

* السوريون بحاجة اليوم إلى ثورة العقل…
هناك من يرى أن الكتابة فن عابر للأمكنة والأزمنة، كيف تراها أنت؟ وما الذي تطمح إليه من وراء كتاباتك؟

أنا أيضًا أراها كذلك، ولدي وجهة نظر تقول: إن الكتابة -والفن عمومًا- هي محاولة للاحتيال على الموت، هي محاولة للبقاء بأشكال أخرى، للسفر بأشكال أخرى. وإنني مع هذه المقولة، الكاتب عبر كتابه يعيش في كل الأمكنة وكل الأزمنة، وبناء على القيمة الأدبية لما يقدمه يكون عمره أطول، ومساحة ومدى انتشاره أوسع وأعمق، أنا بطبيعة الحال أطمح إلى أن أصل إلى ذلك، وأبذل كل ما يسعني من جهد من أجل الوصول إليه يومًا ما، بغض النظر هل سأتمكن من ذلك أم لا.

يُقال إن الإبداع عمومًا يختمر داخل بوتقة المحنة، ويقول جان جنيه: “وراء كل كتابة جيدة ثمة مأساة كبرى”؟ هل تؤيد هذين القولين؟

نسبيًا، هذا كلام صحيح من وجهة نظري، وهناك أقوال كثيرة تصب في هذا الاتجاه، ربما تشكل المأساة الشخصية للمبدع عمادة ما يجب أن يمر بها ليصبح قادرًا على تقديم شيء ذي قيمة، والمأساة تمنح المبدع أفقًا أوسع وأعمق وتكسبه خبرة كبيرة، وأهم شيء أنها تكسبه بعدًا روحيًا وخيالًا متضارب الأفكار، ولو نظرنا إلى تجارب الكُتاب المشهورين عالميا، فسنجد ما يدعم هذا الكلام، فالجميع تعرضوا للمأساة ومروا بمحنة بهذا الشكل أو ذاك، وليس الفقر أولها ولا المرض النفسي آخرها، ربما يكون هناك إبداع لم يتعمد بالمأساة، ولكن هذا الإبداع سيبدو مخمليًا ناعمًا ضحلًا لا يملك ثروة غير حبكته، التي لا يوجد تحتها لا أسماك ولا أعشاب ولا تيارات دافئة وباردة، ستشعر أنه حوض للزينة.

صدر لك عن “دار ممدوح عدوان” في عام 2017، خمس مجموعات قصصية بعنوان: «دفتر الأباطرة»، «دفتر الحرب»، «دفتر القرية»، و«دفتر الغربة»، و«دفتر الهذيان». ما هو سبب ارتباط هذه العناوين بكلمة “دفتر”؟

سبب هذه التسمية هي أن هذه القصص كتبت على مدى عدة عقود، ويمكن القول منذ أن بدأت الكتابة، ولكنها لم تكن تجد طريقها للنشر، فكنت أكتب قصصي في دفاتر ألقيها كلما امتلأت بالأدراج، وعندما أصبح هناك مجال لنشرها عن طريق “دار ممدوح عدوان” قررنا أن نسميها بهذا الاسم لهذا السبب.

في رصيدك الكثير من الأعمال الدرامية التي حظيت بجماهيرية كبيرة، آخرها مما شاهدت مسلسل “الواق واق” (2018)، الكوميدي الساخر، عمل حمل كثيرًا من الرسائل السياسية بشكلٍ غير مباشر، فما هي أهم الرسائل التي أردت إيصالها إلى الشارع السوري بالدرجة الأولى من خلال هذا العمل؟

أردت أن أقول شيئًا واحدًا فقط لا غير، وهو أنه (من دون ثورة العقل، فإن كل ما نفعله لا يتعدى كونه النفخ في قربة مثقوبة)، فقد كان لدينا مجموعة من السوريين الهاربين من القمع والفقر ومن كل أمراض المجتمع، وأتيحت لهم فرصة الوصول إلى أرض فيها كل شيء، وبإمكانهم إنشاء مجتمع جديد كليًا، ولكنهم جميعًا لم يفلحوا في ذلك، فقد كانوا يحملون معهم أمراضهم التي لم يتخلصوا منها هنا، ولذلك أعادوا تجربتهم هناك، وانتهى الأمر بانقلاب عسكري وهرب عبر البحر، لأن (الماريشال عرفان الرقعي) -كنموذج عن العسكري العربي- ظل محتفظًا بعاداته وطمعه بالسلطة فقام بانقلاب في نهاية المسلسل.

فيلمك السينمائي الموسوم بـ «مازلت على قيد الحياة» (مدته سبع دقائق)، المستمد من الحرب السورية، ماذا يشكل في مسيرتك الإبداعية؟ وهل ننتظر منك عمل سينمائي جديد؟

في الحقيقة، في مجال السينما لا يمكنني بعد الحديث عن تجربة حقيقية يمكن القول إنها أضافت لي الكثير، فما أنجزته حتى الآن هو أربعة أعمال قصيرة، لم تخرجني بعد من ساحة الهواية إلى ساحة الاحتراف، قمت بتصوير فيلمين بعد «ما زلت على قيد الحياة»، هما «ثمانون عامًا في الجحيم» و«سطو»، الثاني للمشاركة في مسابقة، والأول لا يزال قيد الإنجاز في مرحلة المونتاج والعمليات الفنية، ولكن جميع هذه الأعمال تنتمي، إن صح التعبير، إلى ما يُسَمى بالسينما الفقيرة، قبل أن أحصل على فرصة لتصوير فيلم طويل، ولدي بعض السيناريوهات الجاهزة، لذلك فلا يمكنني الحديث عن تجربة سينمائية حقيقية.

غلاف كتاب فنّ الكاريكاتير من جدران الكهوف الى أعمدة الصحافة

غلاف كتاب فنّ الكاريكاتير في الصحافة الدورية
* الجماهير بحاجة إلى ثقافة تقودها…
في نصوصك السردية وأعمالك الدرامية، هل تحرص على تقديم إجابات أم تُشرع باب التساؤل والبحث والاجتهاد؟

عندما أنبّه إلى المشكلة، فإنني بشكلٍ آلي أُلمح إلى الحل، ولكن تقديم الحل ليس مهمة النص الدرامي بكل الأحوال، وتقديم الحل في العمل الدرامي، وأخص منه الساخر، يُفقد النص قوته التحريضية، وهذه أهم وظائف السخرية، بينما ترك الباب مفتوحًا يوصل الشحنة للمشاهد ولا يخمدها ويدفعه لكي يُفكر هو بالحل. لذلك أنا أفضل ترك باب التفكير مفتوحًا وجعل المشاهد يشارك في البحث عن الحل.

من منظورك، أي دور للكاتب في استشراف المستقبل؟

المستقبل يتم استشرافه عبر التحليل المنطقي للحدث الجاري والتراكمات الاجتماعية، فإذا كان هناك شخص يسير على حبل مغمض العينين يمكنك أن تتوقع سقوطه بنسبة 99% والمجتمع كذلك، ففي ظل تفشي الفساد والقمع لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التفكير لتوقع ما سيحدث لاحقًا، فهذا يجعل إدارة المجتمع تتجه يومًا بعد آخر إلى طريق مسدود، وتؤدي إلى فشل ذريع سيكون له ارتداداته التي شاهدناها. وأعتقد أن مهمة الكاتب أن يشير إلى ذلك قبل وقوعه، وإن لم يكن تقديم الحل منوطًا به أو يدخل في مجال قدراته أصلًا.

ما هو دور الفنون (الدراما، السينما، المسرح، الموسيقى، وغير ذلك) في معركة السوريين ضد الاستبدادَين السياسي والديني؟

مع الأسف، لم تكن هذه الفنون جاهزة لكي تلعب دورًا قياديًا في هذه المعركة، فلكي تلعب السينما دورًا يجب أن يكون هناك جمهور سينمائي، وكذلك المسرح، وكذلك بقية الفنون البصرية والسمعية والأدب، أضف إلى ذلك أن جميع هذه الأنشطة لا يمكن أن تقوم بلا تمويل، ومعظم جهات التمويل ستخضع هذه الفنون لمصلحتها التي لا تصب بالضرورة في مصلحة المجتمع؛ بعضها رأسمال أجنبي يريد تحقيق أجندته السياسية عبرك، وبعضها رأسمال طفيلي لا يتعدى كونه أكثر من تاجر حرب، والأنكى من هذا وذاك ظهور طبقة طفيلية في الفنون وفي الأدب، كان جزء كبير منها قبل فترة قصيرة يمارس تملقه لدى السلطة، ويمكن أن يكون سبب انتقاله الوحيد هو اعتقاده بأن سفينتها موشكة على الغرق. وقد رأينا روايات فاشلة ولا قيمة لها ومسرحًا مبتذلًا ودراما هزيلة، الجماهير بحاجة إلى ثقافة تقودها لا تسير وراءها، ومع الأسف حاليًا باعتقادي لا يتوفر غير تلك التي تسير في الوراء وهي ثقافة عدوانية لا تسمح بالنشاط الفكري الحر، وتهمة (وهن عزيمة الأمة) أصبحت تستخدم بمسميات جديدة في الاتجاه الآخر، وربما كان هذا الأمر أحد الأسباب السياسية للفشل في تحقيق نتائج إيجابية في هذا المجال، فتسيد الاستبداد بأشكاله في جميع أطراف المعادلة، نحن ليس لدينا ثقافة تملك من القوة ما يمكنها من مواجهة أي من هذين الاستبدادَين، وهذا نتيجة طبيعية لما يقارب الستين عامًا من حكم العسكر الذي قضى على روح المبادرة السياسية والمدنية للشعب السوري، ودجّن المجتمع ولا أقول روضه.

ملصق مسلسل بطل من هذا الزمان

غلاف مسرحيّة الجلاد المتقاعد
لماذا لم تستطع “دراما المعارضة”، إن جاز التعبير، محاكاة وقائع حياة السوريين بما يليق بتضحياتهم الجسيمة؟ هل لغياب نصوص وسيناريوهات قادرة على توثيق ما عايشناه خلال سنوات الجمر؟ أم بسبب تكاليف الإنتاج المرتفعة وقلة الإمكانيات المادية؟ أم عزوف القنوات الفضائية العربية عن دراما تروي فصول المأساة السورية؟ أم هناك أسباب أخرى برأيك؟

ما قدمته المعارضة من أعمال درامية يذكرني بما كانت تقدمه “إدارة التوجيه المعنوي” في الجيش، ففيها من المباشرة والفجاجة ومن الافتعال ما يجعلها بعيدةً عن الجمهور، التمويل لم يكن ينقص هذه الأعمال، العرض كان متوفرًا لها، السبب الأساسي هو عدم قدرة هذه الأعمال على مخاطبة الجمهور المتلقي، شيء يشبه الأدب الملتزم الذي يتعكز على الالتزام، أعتقد أنه في المرحلة القادمة، وبعد أن لا يعود للارتزاق جدوى، ربما سنشاهد أعمالًا ذات قيمة عالية، وستلقى تفاعلًا جماهيريًا ممتازًا.

تكرست بين الكُتاب والفنانين السوريين في العقد الأخير نزعة إلغائية متبادلة، كيف تنظر إلى هذا الأمر؟

مع الأسف، ليس هناك احتكاك بيني وبين هذه الأوساط بسبب غيابي الطويل ونضوجي ككاتب في الخارج، وعمليًا بعيد جدًا عن خصوصيات وأجواء الوسط الثقافي السوري، ولكن حتى دون ذلك يمكنني القول إنها ظاهرة غير صحية، وربما يكون لها آثار كارثية، أعتقد بأننا نحتاج إلى تكريس مواثيق شرف تُربي أعرافًا تحكم علاقات المثقفين.

* نخبتنا بحاجة إلى إعادة تكوين…
إلى أي مدى تركت الثورة/ الانتفاضة أو الحرب… سمّ ما تشاء، أثرًا في الإبداعات الكتابية (شعر، قصة، رواية، مسرحية) في سورية؟ وما مآلات السردية السورية برأيك؟

أعتقد أنه تأثير كبير، هذه التغريبة المأساوية ستصنع كثيرًا من الروايات والقصص والمسرحيات والسينما والقصائد والأغنيات، وسوف يتضح ذلك أكثر بعد مرور عدة سنوات، حيث ستكون كثير من المشاريع قد اختمرت. الآن يمكن أن نشاهد ذلك خاصة في القصة والرواية، وأعتقد أن الرواية ستكون الحاضنة الأساسية لذلك.

كيف تنظر إلى ما جرى ويجري في سورية الآن من صراعات مسلحة؟ وما هو دور النخبة تجاه ما يحصل اليوم؟

تعدّ سورية منطقة ذات أهمية جيوسياسية فائقة، أضف إلى ذلك أنها بوابة للنفط في الخليج، وربما تقع فوق خزان غاز كبير كما يُروج، وأضف إلى ذلك السيليكون الذي يُشاع أنه موجود بكثرة أيضًا، وقد كان من المتوقع دخول كل هذه القوى إلى حلبة الصراع بأشكال مختلفة، وأن يتحوّل إلى حرب مصالح بين القوى الدولية والإقليمية اتخذت من السوري وقودًا لها، أما النخبة فعليها أن تدرك ذلك سلفًا وتأخذه بعين الاعتبار، بحيث لا تقع فريسة لهذه المصالح وتبقى ملتصقة بالشعب وبمطالبه، ولكنها بدلًا من ذلك انقسمت إلى قسمين أساسيين: قسم ارتبط بالمال الأجنبي وأصبح يمثل أجنداته بعيدًا عن مطالب الشعب السوري، وتحولت المعارضة بالنسبة له إلى “بزنس”، وقسم مهمل مهمش عاجز ويشعر بعجزه، أعتقد أن النخبة بحاجة إلى إعادة تكوين وإعادة صياغة، هي الآن بشكلها الحالي غير فاعلة، ولا أمل بذلك.

تحوّل الصراع السياسي في سورية إلى صراع على الهوية بعد تمزق الجغرافيا، ما يدعوني لسؤالك: ما هي نظرتك اليوم إلى مفهوم الوطن والهوية؟

رسوم لحمادة نشرت في مجلة فوجيك البيلاروسيّة في العدد 12 عام 1994
ربما كانت مفردة الوطن بمعناها المجرد تعني السكن، ولكن هناك شروطًا كثيرة يجب أن تتوفر في هذا السكن، ليصبح وطنًا بالمفهوم الذي نتحدث فيه عن الوطن الذي تبذل من أجله الدماء، هذا السكن يجب أن يتوفر فيه الأمن والأمان والراحة، فالسجن حين نسكنه لا يمكن اعتباره ولا الشعور بأنه وطن، ومن شروط تحقق مفهوم الوطن تحقق مفهوم المواطنة، وهذه مسؤولية الدولة، فالمواطن هو الشخص الذي يشعر بأنه محمي على هذه الرقعة التي تُسَمى الوطن بأن له فيها حقوقًا، بأن له حصة منها، عند ذلك سيتحقق الانتماء، عندنا مع الأسف كل الانتماءات ما قبل الوطنية أقوى من الانتماء الوطني، بسبب غياب كافة الشروط التي ذكرتها، وبالتالي فإن التمزق الجغرافي عملية سهلة الحدوث، كون الوطن ينحصر بمكان إقامة المجموعة التي أنتمي إليها، وتنتهي حدوده بانتهاء رقعة انتشار هذه الجماعة، أنا -كإنسان مهتم بالثقافة- أرى أنه يجب الحفاظ على الوطن بمفهومه المتعارف عليه، والسعي لخلق نظام يوفر المواطنة لكي تكتمل المعادلة، وأتمنى ألا نخضع لهذا التمزق الجغرافي لكيلا نتحول إلى كيانات عاجزة لا تتوفر فيها مقومات الوطن.

من منظورك، وبعد كل ما مررنا فيه من أخطاء وعثرات، ماذا بوسعنا أن نفعل -كسوريين- لتصحيح المسار؟ وهل ترى ثمة تغيير في الأفق يشمل الجغرافيا السورية كلها؟

أعتقد أن وضعنا سيكون معقدًا جدًا، ولكن لكي نخرج من هذا النفق، علينا أن نشعل المصابيح ونشاهد وجوه بعضنا، علينا أن نطلق حرية الفكر ونتعامل مع أي طرح كمادة للنقاش دون تخوين وتكفير، وعلينا بقدر الإمكان خلق حياة سياسية في البلد، وإطلاق الحريات بشكلٍ يضمن انخراط المجتمع في الحياة السياسية، علينا بناء دولة حقيقية.

أخيرًا، ما الذي تعكف على كتابته في الوقت الحالي؟

هناك عدة مشاريع أعمل عليها؛ أحاول وضع اللمسات الأخيرة على مجموعتي القصصية الجديدة «دفتر الثكنة»، وروايتي «سرية التأديب»، وهي تتحدث عن علاقة الإنسان البسيط بالحروب التي يشكل هو وقودها. كما أحضر عملًا دراميًا، لا أستطيع الحديث عنه الآن، وكل ما أرجوه أن يرى النور.

المصدر: حرمون