لبنان إلى أين…إلى الإصلاح أم إلى الحرب الأهلية مرة أخرى؟

يقال كثيرًا إن المصالحة تمت بين اللبنانيين، وإن الشعب اللبناني توافق على العيش المشترك في كنف دولة واحدة موحدة مستقلة لها دستورها. لكن ما الذي يمنع تثبيت دعائم هذا العيش المشترك، والمضي قدمًا من أجل محو آثار الحرب من ذاكرة الأجيال الجديدة؟ وهل هناك مؤشرات تدل على إمكانية تكرار اللبنانيين مأساة الحرب الأهلية اليوم؟

shareالحيز العام وكيفية تأطير العلاقات التعددية بين الجماعات تحت سقف الدولة، هو ما يغيب عن الدولة في لبنان
يصف المفكر اللبناني كمال صليبا لبنان بـ”بيت بمنازل كثيرة”، للتعبير عن التعددية. لكن تبقى المشكلة أن الحيز العام وكيفية تأطير العلاقات التعددية بين الجماعات تحت سقف الدولة، هو ما يغيب عن الدولة في لبنان. أو بكلام آخر: ليس هناك قدرة للدولة لتأطير العلاقات التعددية تحت مظلتها.

هل تعاد الحرب الأهلية؟

دائمًا ما يتم تخويف اللبنانيين من العودة للحرب الأهلية. لكن هل يمكن الرجوع للماضي حقًا؟ وهل ثمة رغبة أصلًا بين اللبنانيين لإعادة تجربة الحرب الأهلية المريرة؟ إذا قام المنتفضون بالمطالبة بعزل رموز الحرب الأهلية، يقال لهم إن ذلك يشكل خطرًا على السلم الأهلي، وقد يؤدي إلى الحرب الأهلية!

كيف يمكن تفسير خروج الناس في مواجهة رموز الحرب وعزلهم، كأمر قد يؤدي للحرب الأهلية؟! وكيف يفسر أيضًا الانتفاض ضد مصرف لبنان، بأنه قد يؤدي للاحتراب الأهلي؟

يبدو أنه على اللبنانيين لتجنب الحرب الأهلية أن يصمتوا ويموتوا جوعًا، فالأحزاب تهدد أي غضب ورفض لما وصلت إليه البلاد، بالحرب الأهلية، وتهدد أي مطالب بمحاكمة الفاسدين، بالحرب الأهلية!

الحقيقة أنه لم تتم المصالحة بعد انتهاء الحرب الأهلية، فمن يقرأ جيدًا الخريطة الديمغرافية في لبنان، يعلم تمام العلم أن لبنان عبارة عن “كانتونات”، وأن الطبقة الحاكمة لجأت بدلًا من المصالحة الحقيقية إلى تقاسم الحصص ضمن نظام أسمته “المحاصصة”.

وأمام أي محاولة للانتفاض في وجه النظام المحاصصاتي الذي أخذ البلد إلى الانهيار، يقفز زعماء الحرب الأهلية للتصدي لهذه المحاولات، عبر التهويل بالحرب الأهلية. لكن من بمقدوره القيام بالحرب سوى أحزاب ورموز هذه الطبقة الحاكمة؟!

ماض يعيش في الحاضر!

هل زالت القضايا التي دمرت لبنان فيما مضى؟ بالتأكيد لا، لأن القضايا لا زالت موجودة، والقضايا فوق الدولة بالنسبة للبعض. وما دامت كذلك، فإن إمكانية نشوب حرب أهلية جديدة في لبنان تظل واردة، لأن القضية تعني تمسك جماعة ما بالحق المطلق في وجه الجماعات الأخرى التي تتهمها وتصنفها ضمن خانة “الشر والشيطان والعدو” وما إلى ذلك من الأوصاف. فهل يجب أن نموت من أجل قضايا محقة؟! ألا يمكننا أن نعيش لأجل قضايا محقة؟

منظمات المجتمع المدني تستنكر الحرب الأهلية، وتدعي أن الانتفاضة أزالت أي إمكانية لعودتها، لكن ذلك يبقى ضمن إطار الأمنيات ليس إلا، فالمجتمعات، كل المجتمعات وحتى الحضارية والمتطورة منها، قابلة لأن تشتعل فيها الحرب الأهلية، حين ينهار اقتصادها أو حين يسقط العقد الاجتماعي الذي يحكم العلاقات بين جماعاتها.

ولبنان اليوم يشهد انقسامات شديدة عامودية وأفقية، أي طائفية وطبقية، ما “يهدد السلم الأهلي”، بحسب ما يقول زعماء الحرب الأهلية. بكلام آخر: أي انتفاضة لضرب الطائفية والطبقية ستواجه بالتهديد بإعادة إنتاج الحرب الأهلية.

الحرب الأهلية تحتاج طرفين، وهذا ما دأبت عليه أطراف السلطة لنقل الصراع بينها كطبقة حاكمة في مواجهة الانتفاضة؛ إلى صراع بين أطيافها. وهي اللعبة التي تبرع فيها، إما عبر قسمة طائفية بين الطوائف، وإما عبر قسمة سياسية بين الأحزاب، وبذلك حين يبدأ الاقتتال الأهلي تنتهي الانتفاضة، كونها طرف ثالث محايد عن طرفي الصراع.

الأعداد لها أهمية كبرى في التحركات في لبنان، فقوى السلطة لديها شارعها الذي تتباهى به على أنه “الشارع الكبير الوحيد”، ويراهن هؤلاء على ارتداد أعداد كبيرة من المنتفضين إلى حظائرهم الطائفية والحزبية فور اندلاع الصراع السياسي الضاغط، أو الصراع العسكري بين هذه القوى نفسها. فالحرب الأهلية ملاذهم الأخير لتهميش دور الانتفاضة.

هل يعيد التاريخ نفسه؟

أتت الحرب الأهلية في العام 1975، في سياق الحرب الباردة بين منظومتين دوليتين، الأمريكية والسوفياتية. والآن هناك حرب اقتصادية وصراع محاور دولية للسيطرة على المنطقة بين منظومات دولية كأمريكا وروسيا وإيران والسعودية وغيرها. ولا زالت تدخلات هذه المحاور قائمة في لبنان، ولا زالت الأحزاب اللبنانية في لبنان خاضعة لمصالح هذه المحاور.

ولو لم يكن هناك خوف من الحرب الأهلية، لما كان هناك حديث كثيف حولها، ولم يكن للمحاولات والتحركات المدنية والأهلية أي أهمية على خطوط التماس وبين المناطق ذات اللون الواحد للتقريب بين وجهات النظر، أو لنشر الوعي من خطورة إلغاء الآخر.

كل الكلام والخطابات والتوعية اليومية والندوات والآلاف المؤلفة من التصريحات والكتب والدراسات واللقاءات، بغرض التقريب بين الجماعات الطائفية في لبنان؛ كلها ليست ذات أهمية لو كان مجرد طرح إشكالية عودة الحرب الأهلية أمرًا مستحيلًا. ما يجعل كل هذا الجهد مصبوبًا على نبذ الحرب الأهلية، هو الخوف الكامن من استعادتها، ولو كان ذلك وفق سيناريوهات جديدة!

والسؤال الأبرز: هل تخلص الشباب اللبناني من الأيديولوجيات؟ لأن الصراع أيضًا له أبعاده الثقافية. وللإجابة على هذا السؤال يجب البحث أكثر في بنية المجتمع اللبناني، وأين أصبحت هذه الأجيال المتعاقبة، وما هي الأيديولوجيات التي يتم ترويجها اليوم في لبنان.

وبنظرة سريعة نجد أن هناك أيديولوجيا ممانعة منتشرة على نطاق واسع، وإلى جانبها أيديولوجيا حول الدفاع عن الوجود المسيحي في لبنان، وأيديولوجيا الحياد الإيجابي، الذي يريد لبنان محايدًا عن كل المحاور والصراعات، وغيرها.

كل هذه الأيديولوجيات يتم نشرها بعصبية، والتعمية من خلالها عن الصراع الأساسي بين المنتفضين في لبنان وبين الطبقة الحاكمة المحتكرة لرأسمال، والمسؤولة مباشرة عن إفقار الشعب اللبناني.

كذلك هذه الطبقة الحاكمة لم تعمل عمدًا على وضع وتنفيذ آلية جدية للعدالة الانتقالية في لبنان فيما بعد الحرب الأهلية، كما لم تعمل على إنهاء “تروما الحرب” بين الجيل الجديد في لبنان، لا بل إن هذه الطبقة الحاكمة عمدت عن قصد، ولا زالت تعمد، على نشر تروما الحرب بين جماهيرها الحزبية، والمثال الأبرز لذلك يمكن تلقفه عبر متابعة وسائلها الإعلامية وخطاباتها.

في المقابل، ما يمنع قيام الحرب الأهلية هو قيام الدولة القوية في كافة المجالات: بدءًا من الاقتصاد والعدل والرعاية الاجتماعية، وانتهاءً بالعسكر، ووصولًا إلى دولة القانون والمواطنة.

إلا أن هذه الطبقة الحاكمة يستحيل أن تبني دولة لسببين جوهرين: طبقية هذه الدولة، وطائفيتها. فالدولة في لبنان لا يمكنها التعايش والقيام في ظل وجود هذه الطبقة الحاكمة، لأن قيام الدولة نقيض وجود هذه الطبقة؛ فالطبقة الفاسدة تولد دولة فاسدة.

إلا أن ذلك لا يعني السكوت عن الظلم والفساد، بل يعني تجذير الانتفاضة أكثر فأكثر لزيادة وعي اللبنانيين لمواجهة النظام الطبقي الطائفي الموحد، ونشر خلاصة تجربة 15 عامًا من الاقتتال: لم ينتصر أحد في الحرب الأهلية، بل خسر الجميع. أما بالنسبة لرموز الحرب وأحزابهم فيراهنون دومًا على أن الحرب انتهت، لكنها في الحقيقة لم تنته!

ربما يجب استبدال مصطلح الحرب الأهلية في لبنان بالحرب الحزبية، لأن الأهالي لا يريدون الاقتتال، بل الأحزاب
ربما في الحالة اللبنانية، يجب استبدال مصطلح الحرب الأهلية بالحرب الحزبية، لأن الأهالي في لبنان لا يريدون الاقتتال، في مقابل أن الأحزاب هي التي تكرس للاحتراب بخطاباتها الحشدية الطائفية. وإن كانت الأحزاب تشكل جزءًا من المجتمع، فهي لا تختصر “الأهالي” جميعًا.

المصدر: الترا صوت
فراس حمية