الدكتور كمال اللبواني يوثق الاحتلال الروسي لسوريا بالأرقام والبراهين (أكاذيب وحماقات وخسائر)

كتب الدكتور كمال اللبواني

لم يعد هناك شك بوجود احتلال روسي لسوريا، فالجيش الروسي يسيطر عسكرياً و‘دارياً على معظم مفاصل الدولة والأرض، واستعانته بمليشيات إيرانية أو تابعة لنظام الأسد لا يغير من حقيقة أنه محتل، وبقاء مناطق حاضعة لنفوذ ميليشيات محلية لا تطمح لأن تحكم سوريا في شرق الفرات، هو محاولة انفصال وليس معارضة تنافس النظام في دمشق، أما المناطق التي تحت سيطرة فصائل إسلامية مصنفة ارهابية بطريقة غير عادلة، فهي عرضة لقصف وحشي لن يعترض عليه أحد، وعرضة لهجوم بري مستمر يجد تشجيعه من دول الغرب والشرق معا.

روسيا لا تحتل سوريا فقط بل تفرض إرادتها أيضا على تركيا وإيران على الأقل بما يخص الشأن السوري، فقد نجحت السياسة الروسية في توسيع المسافة بين الولايات المتحدة وكل من هذه الدول تباعاً، ضمن مشروعها لاستعادة النفوذ في الشرق الأوسط وفرض هيمنة المحور الأوراسي الذي ترعاه روسيا والصين وتنضمن إليه إيران وتركيا في الطريق لذلك، وترى أن الولايات المتحدة قد سرقت منها الشرق الأوسط مستغلة ظروف انهيار الاتحاد السوفييتي وهذه هي الكذبة الأولى التي تكذبها روسيا على نفسها، لأن أمريكا تريد جدياً الانسحاب من المنطقة.

الكذبة الثانية هي الإصرار على عدم إعلان هذا الاحتلال، كي لا يتحمل الروسي مسؤولياته كمحتل، ولا يلتزم بتطبيق اتفاقيات جنيف الأربعة وملحقاتها. ويصرّ الروسي على الاحتفاظ بدور شكلي للنظام التابع له وللمعارضة التي صارت تابعة له أيضاً، وفي ذلك كذبتان تتعلقان بتمثيل الشعب السوري في كلا الطرفين يصدقها ويروج لها الروسي، وعبر مسارات تفاوض شكلية يحاول أن يصوير القضية كقضية داخلية وهي كذبة خامسة، وأن يصور نفسه كطرف وسيط وضامن في حلها، مع أنه هو الطرف المعتدي والمحتل وهي كذبة سادسة، مستخدماً مسارات تفاوض كاذبة تجري استعراضياً في أستانة وسوتشي وليس فيها أي عملية تفاوضية، وليس للمعارضة أو النظام أي حصة في قراراتها، بل هي عملياً مسارات عسكرية وأمنية الهدف منها تسليم المناطق تباعاً للهيمنة الروسية على حساب سلطة المعارضة وسلطة النظام على السواء، وتساهم بهذا المسار إيران وتركيا وبعض الدول العربية وتشرعنه دول أخرى في المجتمع الدولي، وتدعمه الصين بنفوذها الديبلوماسي والاقتصادي.

لا يبدو أن روسيا تتصرف كدولة عظمى عاقلة ومسؤولة وفق نظام الأمم المتحدة التي هي عضو أساسي فيه، بل تتصرف كقوة جبارة طغيانية حمقاء لا رقيب ولا حسيب، تستعرض قوتها أمام قوى أخرى تتعمد تجاهلها.

فالأمريكي الذي تريد روسيا إخراجه من الشرق الأوسط، هو بذاته تلقائياً يسعى لذلك وينسحب رغم كل الاحتجاج من ربيبته اسرائيل. هذه اللاعقلانية التي تحكم القوة الروسية تبدو شيئاً ساراً لمخططي الاستراتيجيات الأمريكان، فالمنطقة بالنسبة لهم مجرد رمال متحركة، والأهداف التي يتوجب قصفها أقل قيمة بكثير من ثمن القذائف التي تدمرها، والمنافع المتوقعة من السيطرة والاحتلال لا تغطي جزءاً بسيطا من كلفته المادية، ناهيك عن تكلفته المعنوية والبشرية الباهظة … فالاحتلال والسيطرة العسكرية والحروب الواسعة قد أصبحت استراتيجيات فاشلة وخاسرة بنظر الأمريكيين، وهم سعيدون بكون منافسهم الروسي متخلفاً عن ادراك ذلك ، ويغرق أكثر وأكثر في أخطائه منتشياً بنصر لا يحمل أي معنى من معانيه، حتى عسكرياً.

روسيا تكذب على الجميع ، و قبل ذلك تكذب على نفسها أيضاً ، فهي تعلم أن النظام السوري غير شرعي ومجرم ومدان وفق القانون الدولي الذي تعطل تنفيذه بالفيتو، وأن شعبه بأغلبيته الحاسمة قد ثار عليه، وأنه لا أمل له بالبقاء من دون جيوش دول عظمى تحرسه وتحتل بلاده. وتعلم روسيا أن سوريا المدمّرة ستكون بحاجة لمساعدات هائلة لإعادة الإعمار، وليست دجاجة تبيض ذهباً، وهذا لن يتم بوجود الاحتلال الذي ينهب الثروات وسلطة الفساد، أي أن بقاء هذا الاحتلال وهذه السلطة يعني بقاء حالة الخراب والتهجير والمقاومة الشعبية بكل أشكالها طبعاً، وتعلم أن إيران وتركيا هم أعداءها التاريخيين، وهم أعداء فيما بينهم أيضاً، وأن تحالفاتهم مبنية على خدائع مضمرة، وأن المحور الأوراسي مجرد وهم سياسي لا أساس راسخ له ولا قدرة له على منافسة الحضارة الغربية. وتعلم أن العرب السنّة في سوريا هم أغلبية مطلقة من حقها أن تحدد هويتها ونظام الحكم فيها، وأن استبعادهم من الحكم لن يكون ممكناً بعد انسحاب جيوش الاحتلال بعد كل ما جرى، وتعلم أن اسرائيل تستطيع الضغط من داخل روسيا على نظام بوتين ومافياته المرتبطة به، وهو لا يستطيع أن يرفض لها طلباً، وأنها لن ترضى منه ببقاء إيران في سوريا، وأنه بالتالي على روسيا الدخول في صراع مع حليفها الإيراني بمجرد انهاء الفصائل، وحتى التركي.

باختصار، بني الاحتلال الروسي لسوريا على مجموعة أكاذيب على الغير وعلى الذات، وما قام به عملياً هو تدمير منهجي لما تبقى من سوريا، واستكمال تهجير أهلها، و المصيبة أن يكون هذا الاحتلال خاسراً أيضا بالنسبة لروسيا كشعب ودولة ( وهو ما أدركته أمريكا بعد غزوها العراق )، وبالتالي أن يكون هذا التدخل والاحتلال فعلا أحمقاً يقوم به سياسيون فاشيست مهووسون بالثروة والقوة، سوف يسرّع أي عاقل يحكم الكريملين بعد بوتين للانسحاب منه. لتنكشف حقيقة أساسية في هذا العصر وهي أن الدول العظمى ( التي تمتلك القوة ) لا تمتلك السلطات ذات الرصيد الكافي من العقل الذي يضبط تلك القوة، فتعيث في هذا العالم فساداً ، ناهيك عن انعدام قيمها الخلقية المعلن عنه بكل صراحة ووقاحة.